"مش لازم الناس تكون شبه بعض، الاختلاف ده حاجة جميلة". كانت هذه الجملة دائما ما ينطقها صديقي الذي يكبرني بعقدين من الزمان. كانت تتقلص مساحة غضبه مني لسبب أو لآخر، وتجعله يغفر لي أو أغفر له. أخذ هذا " الاختلاف" درجات في علاقتنا، واكتسب أشكالا كثيرة حتى وصل لشكله الحالي الهادىء. فى البداية كان هذا "الاختلاف" نوعا من التماهي بيننا، بالرغم من فارق العمر الكبير. ربما بسبب كوننا ننتمي لفصيل اجتماعي صغير يحب الفن والكتابة والسينما. كل أفراد هذا الفصيل، دون أن يدروا، أو بدرايتهم، قلصوا من مساحة هذا "الاختلاف" فيما بينهم، وحولوه لتماه ولتطابق على وشك الانفجار، في مواجهة مجتمع غير مبال يقف على الجهة الأخرى.
بمرور الوقت أخذ هذا التطابق يتشقق، وينفصل كما ينفصل التوأمان الملتصقان. فى هذا الزمن البعيد كان هذا الانفصال يحدث بنزاع وحدَّة مثل حشرجة الروح وهي تخرج من الجسد. لا يهم من الذى يأخذ دور الروح، ومن الذي يأخذ دور الجسد، الأهم كان إدخال هذه الرجَّة وصوت الحشرجة، التي تأتي مباشرة من نوتة الموت؛ في نسيج الحياة العادية للعلاقات.
فَضّ هذا التماهي المزيف بيننا خلَّفَ وراءه جروحا عميقة في نفس كل منا. وبدا الانقسام الحقيقي يحدث، الخلية تنقسم إلى اثنتين. الانقسام يحمل موتا للخلية الأصلية بالرغم من أنه هو الذي ينمي شجرة الوجود ويعمِّر السلالات. بعد هذا الانقسام الأولي كان مصطلح " الاختلاف" يتشكل بإحساس جديد، فيه كثير من المرارة، فقد كانت الجروح لازالت طازجة، وأي مساس بها قد يؤدي لمعركة سجالية فى الإيذاء، ولمزيد من النزف. كنا نرى بعضنا بمرآة هذه الجروح. كالثيران الهائجة كنا نندفع للون الدم. لذا كان مصطلح "الاختلاف" في هذه الفترة يأخذ شكلا نفسيا بحتا، متمثلا فى التغاضي والكتمان وكظم الغيط عن توجيه أي انتقادات مباشرة، أو توضيح مساحة الهوة التي تفصل بيننا، إلا فى الأوقات الصعبة التي لا بد فيها من أن تستعمل قوتك المجروحة كي توقف أي بادرة إيذاء متعمد من الآخر. كان هناك ركن للإيذاءات المتعمدة، تماما كركن الهدايا في غرف الأطفال.
أخذت رحلة اندمال الجروح زمنا، وانصب تمرير "الاختلاف" ليس على إشاراته التقليدية المعروفة في طريقة النظر للحياة، بل انتقل إلى الوسيط الفني أو الأدبي الذى يتقنه كل منا. كنت أسرِّب رأيي في حياته، غير المسؤولة من خلال نقدي للوحاته، على اعتبار أنها نسخة أخرى من صاحبها، وربما النسخة الأكثر صدقا منه. كان جسده مازال دافئا داخل فضاءات وأجساد وألوان لوحاته. هو أيضا استلم تلك الطريقة غير المباشرة وأخذ يضِّمن نقده و" اختلافه" عبر أشعاري، باعتبارها النسخة الأصيلة من شخصيتي.
أعرف الأن أن العمل الفني، أو الأدبي، يحمل صورة من حياة صاحبه ولكن فى أقصى تألق لها، المكان الذي يضع الأخطاء والعيوب في وضع حر غير مشروط ولا يخضع لجاذبية الأرض. وربما هذا التألق يقلب تماما النية الأصلية للعمل الفني، أو الأدبي، ويحرره تماما من دلالاته النفسية المباشرة. كلانا كان يصوب فى الاتجاه الخاطيء.
أصبحنا نكرر بمناسب وبدون مناسبة: "صداقتنا فوق الاختلاف". أصبح "الاختلاف" مقترنا بالصداقة من طول عشرته لنا، ومصدر سعادة لنا بعد أن قلت أعراضه النفسية، وبعد أن طال زمنه وطال شعره وأصبح كالمتصوفة، وبدون أن تنقطع خيوط هذه الصداقة. هناك شىء داخل هذا "الاختلاف" كان يبث فى هذه الصداقة طاقة تجددها وتجدد لحظات طلاقتها أمام الحياة. وأيضا كان "الاختلاف" كالمخدر الذى يسكِّن الآلام الماضية. كنا فرحين بأننا نمتلك مذهبا عصريا لا يستوطن كثيرا فى مجتمعاتنا غير المبالية. وربما أيضا كنا نمتلك هيكل ديانة غير منسجمة يمكن أن تنقسم وتوجد أتباعا، هم بدورهم قابلون للانقسام، مثل البذرة الأولى التى انقسمت وبدأت سلسلة الانقسامات تتالى فى الوجود والأفكار، وذرات التراب. ربما لم نعرف حينها بأن البذرة تحتوي على آلاف البذور الكامنة بداخلها.
بعدها أخذ المصطلح ينمو وأصبح له إيماءات ورموز وعبارات وأشكال وتحويرات يتواجد فيها، ولم نعد نحتاج لأن نسلك هذا الطريق غير المباشر لتوصيل رأي كل منا، غير المتوقع، في الآخر. أصبح هذا "الاختلاف" مثل وليد نما بيننا. يمكن أن أسمي هذا الوليد بـ"المركب الثالث" الذي تحدث عنه هيجل، الذي يخرج من جدل عناصر الحياة المتناقضة. جدل الشيء ونقيضه. كان الآخر في تلك اللحظة إحدى أدوات هذا الجدل. ولكن في كل مراحل "الاختلاف" بيننا، لم نكن "الشيء" ذاته، ولم نكن أيضا "نقيضه". لذا حدث الانقسام والتفاعل عند التقاء عدة متوسطات قيمية.
رغما عنا أخذ يسمو هذا "الاختلاف" ويصفو ويحلق فوقنا، مثل طائرة ورقية. أو مثل إله أرضي،لا يطلب منا عبادته، وإنما نأتنس في حضوره، بهبة هواء منعشة تحرك هوائيات حنيننا للاشيء.عندما يتحدث صديقي عنه، هذا الإله الأرضي، كأن مذاق العسل في فمه، يزدرد المصطلح كما يزدرد خبزا ساخنا. عندما نتحدث عنه، نستجلب ذكريات ماضي الخلافات بيننا وجروحها، فنتنفس بعمق كأننا على أعتاب جنة أرضية، خالية من الجروح والصدامات الخشنة، ومليئة بالتناقضات الساكنة وطويلة الأجل والتي لاتحل إلا فى قرون وقرون.
احتاج مصطلح " الاختلاف" إلى مايقرب من ثلاثين عاما لكي يأخذ أشكاله ويوفي الطاقة الكامنة فيه. لو شبهته سأشبهه بشجرة ريلكه التي تحدث عنها في إحدى قصائده بأنها "تنمِّي نفسها بالاستدارة كي تمنح نفسها الشكل الذي يزيل مخاطر الريح". كان أحد مقاصد " الاختلاف" أن يزيل المخاطر، أي مخاطر، ولكن على حساب الاتفاق أو التضامن. كان المصطلح يتأثر بشكل نموه فى الثقافة من حولنا، والتي رفعته كشعار مضلل لها، بينما هي تأخذ منحى التواطؤ أو الخلاف الصريح الذي بلا رجعة. كنا معلقين نمد جذورنا في الهواء، وبجوارنا آخرون مثلنا، كي نؤصل لهذه المساحة المرتبكة التي تجمعنا وتفصلنا، كاصدقاء، وكفنانين، وكعرَّابي " الاختلاف”، بدون تقديس، أو تهاون.
كان "الاختلاف" كائنا جديدا ينمو بيننا، برغم هذين العقدين من الزمان اللذين يفصلانني عن صديقي الفنان. ربما له الفضل في الحفاظ على التجاذب بين جيلين متباعدين ظاهريا. أصبح "الاختلاف" عبر هذه التحولات والتحويرات والتأويلات وتجارب العمر؛ أصبح كالسيمفونية التي تؤلف بين عدة ألحان مختلفة وغير متجانسة. انتقل " الاختلاف" في تشبيهي له من كونه بذرة إلى سيمفونية. قاربَ بين البذرة والموسيقى. كلاهما له القدرة على الإنبات والانقسام.
نعيش الآن الأيام السعيدة لهذا "الاختلاف"، بعد أن صار رجلا يافعا، وهذا لا يمنع أن يسرِّب كل منا للآخر انتقاداته المباشرة أو غير المباشرة، ولكن هذه الانتقادات أصبح لها استدارة غير جارحة. ليست لأنها فقدت صدقها الجارح القديم، ولكن لأن الصدق أخذ شكل حياتنا وتجاربنا وجروحنا.
الإسكندرية 19 مايو